أنت هنا

20 صفر 1430
المسلم-متابعات:

وجّه فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة نداءً إلى أهل الصومال، قال فيه إنه "قد آن الوقت لوضع السلاح والجلوس للحوار والنقاش من أجل المصلحة العليا للشعب الصومالي".

وأشار العودة إلى أن دوافع وأسباب الصلح عديدة، منها: الرغبة فيما عند الله، وإرادة الإصلاح، وحقن الدماء، ووَحدة الصف، ضاربًا مثالًا بعام الجماعة، وما حدث من صلح بين الحسن بن علي ومعاوية بن أبي سفيان.

ودعا العودة الفصائل الصومالية إلى "الحرص على الأخوة فيما بينهم والكف عن سفك الدماء، مؤكدًا على أن الله عز وجل جعل من مقاصد الشريعة حفظ النفوس وتحريم الاعتداء عليها، وتساءل فضيلته: "ألا يكفينا ما حدث من سفك لدماء وتهجير وتشريد وتمزق، وما ترتب على ذلك من خسائر اقتصادية وسياسية واجتماعية".

وحث العودة الفصائل على التحلي بفضائل التنازل وإيثار المصالح العامة، مشيرًا إلى "أن آخر ما ينزع من نفوس الصالحين حب الجاه والسلطة.

ودعا العودة قادة الفصائل الصومالية إلى تحكيم الإسلام فيما بينهم من خلاف، وأكد أن الاحتكام إلى الشريعة وتطبيقها ليس مقصورًا على الحدود والعقوبات كما يتوهم من لا فقه عنده، بل هو معنى عام يقتضي حفظ ضروريات الدين والحياة التي هي: الدين، النفس والدم، المال، العقل، العرض والاجتماع، ولا يتم حفظ ذلك كله إلا بالأمن والاستقرار.

وشدد الشيخ العودة على أن "تطبيق الشريعة يعني تطبيق الأخلاق الفاضلة لأنها من أعظم مقاصدها وقيمها.

وناشد العودة (المشرف العام على مؤسسة "الإسلام اليوم") في بيانه الصوماليين الالتفاف حول الرئيس الجديد شريف شيخ أحمد، الذي وصل إلى سدة الحكم من خلال مؤسسات الشعب الصومالي، مشيرًا إلى أن شيخ أحمد معروف لدى الفصائل الصومالية في الداخل والخارج، وعُرف بأخلاقه ووقوفه مع الشريعة، وإخلاصه لدينه ووطنه.

وطالب العودة الرئيس الصومالي شيخ أحمد إلى أن يضع يده في يد إخوانه، مشاورة ومشاركة واستماعًا، وألا يقطع أمرًا دونهم، وأن يمتثل في كل موقف حساسية الأمر ودقته وحاجته الشديدة للحكمة والتريث وطول النفس، أسوة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في سياسته مع الناس.

وقال فضيلة الشيخ سلمان العودة في ختام خطابه: "ثمة بصيص من الأمل يطل من هذا البلد الذي أكلته الحرب على مدى أكثر من عشرين عامًا"، معتبرًا أن "حفظ سمعة أهل الإسلام تقتضي منا الإصرار على اغتنام الفرصة الإقليمية والدولية التي تجعل من عودة الاستقرار لهذا البلد العربي المسلم مطلبًا متفقًا عليه".

نص نداء الشيخ سلمان العودة :

 

 

نِدَاءٌ إلى أهل الصومال

 

1-                مقدمة:

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ، وصلواتُ الله وسلامه على إمام الدُّعَاة وسيد الْهُدَاة ، وقائدِ المصلحين؛ محمدِ بن عبد الله ، وعلى آله وصحبه، ومَنْ سار على دربه، واقتفى أَثَرَهُ وهُدَاه..

أمَّا بَعْدُ؛

فهذه كلمات مِلْؤُها الأمل والتطلع والتفاؤل، ودافعها الحبُّ والصِّدْقُ والنُّصْحُ الذي نُضْمِرُه في قلوبنا لكل مسلم، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال جرير رضي الله عنه: "فوَرَبِّ هذا البيتِ إني لناصِحٌ لهم".

وأرجو أن يكون هذا دَأْبَنَا ودَأْبَ كُلِّ مسلم غيورٍ على دينه.

وإن الإخوة في الصومال كبيرَهُم وصغيرَهُم – وليس فيهم صغيرٌ- على منزلة واحدة، لا تمييزَ بينهم ولا تفاوت، ومن هذا المنطلق جاءتْ هذه الكلمات، التي أرجو أن تقع مَوْقِعَهَا في نفوسهم الطيبةِ المباركةِ المخلصةِ لهذا الدين.

2- ألم وأمل:

إن شعبنا المسلم في الصومال عانى من ويلات الحرب، واختلاف الكلمة، وتمزُّقِ النسيج الاجتماعي بسبب الحرب والاختلاف، وما ترتَّبَ عليه من سفك الدماء، والتشريد في داخل البلاد وخارجها، وحان الوقت لهذا الشعب أنْ يستظِلَّ بظلال الأمن والأمان، ويبنيَ دولته ومؤسساتِه الاجتماعية والتنموية والاقتصادية والثقافية والعلمية ... إلخ.. على أسس راسخة من العدل، والمساواة، وسيادة القانون، واستقلال القضاء، من خلال مَرْجِعِيَّتِه الإسلامية.

إننا نناشد الفصائل الصومالية أن تلتف حول الرئيس الجديد الذي وصل إلى سُدَّةِ الحكم، من خلال مؤسسات الشعب الصومالي، والشيخ شريف معروفٌ لدى الفصائل الصومالية في الداخل والخارج، وعُرِفَ بأخلاقه ووقوفِهِ مع الشريعة، وإخلاصِهِ لدينه ووطنه – نحسبه كذلك، ولا نُزَكِّي على الله أحدًا.

قد آن الوقت لوضع السلاح، وجلوس الفصائل الصومالية للحوار والنقاش من أجل المصلحة العليا للشعب الصومالي، لكي يصلوا إلى اتفاقٍ يُحِبُّه ربنا، ويرجع بالخير العميم على الشعب الصومالي الجريح، وعلى أُمَّتِكم التي تتشَوَّقُ لوحدة صفكم، واجتماع كلمتكم. كما نُنَاشِدُ الأخ الرئيس أن يضع يدَهُ في يد إخوانه مشاورةً ومشاركةً واستماعًا، وألَّا يقطع أمرًا دونهم، وأن يَمْتَثِلَ في كل موقفٍ حساسيةَ الأمر ودِقَّتَهُ، وحاجتَهُ الشديدةَ للحكمة والتَّرَيُّثِ وطُول النَّفَس، أُسْوَةً بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، في سياسته مع الناس.

3-                الاحتكام إلى الشريعة:

إننا ندعوكم إلى تحكيم الإسلام فيما بينكم من خلاف، قال الله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).

وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).

إن الاحتكام إلى الشريعة وتطبيقَها ليس مقصورًا على الحدود والعقوبات، كما يتوَهَّمُ من لا فِقْهَ عنده ، بل هو معنى عامٌّ يقتضي حفظَ ضروريات الدين والحياة، التي هي:

أ- الدين          ب- النفس والدم          ج- المال       

د- العقل          هـ- العرض           و- الاجتماع

ولا يتم حِفْظُ ذلك كُلِّه إلا بالأمن والاستقرار.

 وتطبيق الشريعة يعني تطبيقَ الأخلاق الفاضلة؛ لأنها من أعظم مقاصدها وقِيَمِها، كما قال صلى الله عليه وسلم: " إنما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مكارم الأخلاق" رواه مالكٌ وأحمدُ بسند صحيح.

ومن ذلك: الشجاعة؛ فهي خُلُقٌ فاضِلٌ عظيمٌ، والشجاعة تكون مع النفس، وتكون مع الأَتْبَاع ، كما تكون مع الأعداء، ولذا جاء في الصحيحين:" الشديد الذي يملك نَفْسَهُ عند الغضب".

وليست الشجاعة كُلَّ الأخلاق، بل هي خُلُقٌ واحِدٌ ، وكذلك الحِلْمُ والأَنَاةُ، كما مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم، أشجَّ عبدِ القيس، كما في صحيح مسلم: " فيك خَصْلَتَانِ يُحِبُّهُمَا الله؛ الحِلْمُ والأناة".

وكذا التسامح والعفو؛ فهي ممدوحةٌ بالكتاب والسنة ، محمودةٌ في الطِّبَاع البشرية، ولا يداوي الجراحَ ويُزِيلُ الوَحْشَةَ والشَّحْنَاءَ مِثْلُ الكرم والتسامح والتغَافُلِ، كما قال الشافعي رضي الله عنه: " الكَيِّسُ العاقِلُ هو الفَطِنُ الْمُتَغَافِلُ".

وقيل لأحمد: إنّ فلانًا يقول: تسعةُ أعشار العقل في التغافل؟ قال: بل هو العَقْلُ كُلُّه.

فالإحساس الْمُفْرِطُ بالمؤامرة يُوَلِّدُ سوء الظن، ويُحَضِّرُ للمواجهة ،ويُحَمِّلُ كل فرد أو فصيلٍ أن يُبَادِرَ بالشَّرِّ، على قاعدةٍ جاهلية هي : " تَغَدَّ به قبل أن يتعَشَّى بك"!

بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن المشركين، كما في صحيح مسلم: " دعوهم، يَكُنْ لهم بَدْءُ الفُجُورِ وثِنَاهُ".

إن الهدوء وسَعَةَ البال والاعتدالَ في تقدير الأمور، ضروريٌّ لاتخاذ الموقف السليم، خاصةً في أوقات الاضطراب والفتنة، وما إِخَالُ إخوتي بغافلين عن ذلك.

4- حق الإخاء:

إننا ندعوكم للحرص على الأُخُوَّة فيما بينكم، فهذا الأمر من مقاصِدِ دينكم الإسلامي العظيمِ، فبه تحفظون وَحْدَة الصف، وقوة التلاحم، ومتانة التماسك بين أفراد المسلمين، فالأُخُوَّةُ منحةٌ من الله عز وجل، قال الله تعالى: (الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

وقال الله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ..)

أيها الإخوة الصوماليون:

إن نَبِيَّكُم الكريمَ صلى الله عليه وسلم اعتمدَ على معاني الأُخُوَّةِ، وعَمِلَ على تحقيقها، وجَعَلَهَا من الوسائل المهمة في بناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية.

إن تحقيق مبادئ العدالة والمساواة بين الأفراد لا يتم ما لم تَقُمْ على أساسٍ من التآخي والمحبة فيما بينهم، بل إن هذه المبادئ لا تعدو أن تكون حينئذ مصدرَ أحقادٍ وضغائِنَ تشيعُ بين أفراد ذلك المجتمع، ومن شأنها أنْ تحمل في طَيِّهَا بذورَ الظلم والطغيان في أَشَدِّ الصور والأشكال.

أيها الإخوة الصوماليون:

إن اتخاذكم من حقيقة التآخي بين المسلمين أساسًا لمبادئ ونُظُمِ دولتكم، يُعْطِي فُرْصَةً عظيمةً لتحقيق السلام، والعدالة، والمساواة، والحريات، ومقاصد الشريعة الكبرى في بلادكم الجريحة.

5- إصلاح ذات البَيْن:

أيها الإخوة الفضلاء، إنّ اتحادكم على أُسُسٍ من ديننا العظيم أَمَلُ كُلِّ المسلمين الصادقين في كل مكان، قال الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا).

إن الله ربَّكُم جعل إصلاح ذاتِ الْبَيْنِ من أعظم الجهاد، فبه يتحَقَّقُ تأليف قلوب المسلمين، واجتماعهم على دينهم، ومصالحهم الدينية والدنيوية، فالله عز وجل أَمَر بكل ما يَحْفَظُ على المسلمين جماعَتَهُم وأُلْفَتَهُم، ونهى عن كل ما يُعَكِّرُ هذا الأمر العظيم.

إن ما حصل من فُرْقَةٍ في الصومال وتدابُرٍ وتقاطُعٍ وتَنَاحُرٍ بسبب عدم مراعاة هذا الأصل وضوابطه، مما ترتب عليه تَفَرُّقٌ في الصفوف، وضعفٌ في الاتحاد، وهذا الأمر- وإن كان مما قدّره الله عز وجل نحونا، ووَقَع كما قّدر- إلا أنه سبحانه لم يأْمُرْ به شرعًا؛ فوَحْدَةُ المسلمين واجتماعُهُمْ مَطْلَبٌ شرعِيٌّ، ومَقْصِدٌ عظيمٌ من مقاصد الشريعة، بل من أسباب الاستقرار والأمن وحِفْظِ الدين والنفوس والعقول والأعراض والأموال والأوطان، ولن يُغَيِّرَ اللهُ ما بنا حتى نُغَيِّرَ ما بأنفسنا، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).

أيها الإخوة الصوماليون:

إن من القُرُبات العظيمة لله عز وجل، ومن واجبات الوقت عليكم: أنْ تتضافر جهودُكم في إصلاح ذات البين، إصلاحًا حقيقيًّا لا تلفيقيًّا.

6- اللهَ اللهَ.. في الدماء!

كفانا سفكًا للدماء.. إن الله عز وجل جعل من مقاصد الشريعة حِفْظَ النفوس، وتحريمَ الاعتداء عليها، قال تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا).

وقال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا).

وقال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أكبر اجتماعٍ للمسلمين في حِجَّةِ الوداع: " إنّ دماءَكُم وأموالَكُم وأعراضَكُم حرامٌ عليكم كحُرْمَةِ يومِكُمْ هذا، في بلدكم هذا، في شَهْرِكُم هذا".

وقال صلى الله عليه وسلم: " لَزَوَالُ الدنيا أَهْوَنُ على الله تعالى من قَتْلِ مؤمنٍ بغير حق".

وقال صلى الله عليه وسلم: " لن يزال المؤمن في فُسْحَةٍ من دينه ما لَمْ يُصِبْ دمًا حرامًا".

ألا يكفينا ما حدث من سَفْكٍ للدماء، وتهجير وتشريد وتَمَزُّق، وما ترتب على ذلك من خسائر اقتصادية وسياسية واجتماعية... إلخ؟!

7- التنازُل، وإيثار المصالح العامة:

إن آخر ما يُنْزَعُ من نفوس الصالحين حُبُّ الجاه والسلطة، ولكم في الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قدوةٌ حسَنَةٌ في الحِرْصِ على الصلح.

ودوافع وأسباب الصلح عديدةٌ، منها:

1-       الرغبة فيما عند الله، وإرادة الإصلاح:

قال الحسن بن عليٍّ، ردًّا على نفير الحضرمي، عندما قال له: إن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة؟ فقال: كانت جماجِمُ العرب بيدي، يسالمون مَنْ سَالَمْتُ، ويحاربون مَنْ حاربتُ، فتركتها ابتغاءَ وَجْهِ الله.

إن الدرس المستفاد من موقف الحسن بن علي رضي الله عنهما في أهمية إرادَةِ وَجْهِ الله، وتقديم ذلك، والحرص على إصلاح ذات البين، من أسباب الصلح ودوافعه؛ فمكانة الصلح عظيمة، وهو من أَجَلِّ الأخلاق الاجتماعية، إذ به يُرْفَعُ الخلاف، وتُنْهَى المنازعة التي تنشأ بين المتخاصمين مادِّيًّا أو اجتماعيًّا، ويعود بسببه الوُدُّ والإخاء بين المتنازعين، لكونه يُرْضِي طرفي النزاع، ويقطع دابِرَ الخصام، ولذلك فإن الصلح من أسمى المطالب الشرعية، قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، وقال الله تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).

وقال الله تعالى: (تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا).

وقال تعالى: (لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ).

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألا أُخْبِرُكُمْ بأَفْضَلَ من درجة الصيام والصلاة والصدقة"؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إصلاح ذات البين". وقال صلى الله عليه وسلم : " إنّ ابني هذا سَيِّدٌ، ولعل الله أنْ يُصْلِحَ به بين فئتَيْنِ عظيمَتَيْنِ من المسلمين"

فالحريصون على إصلاح ذات البين هم سادة الشعب الصومالي.

2-       والدافع الثاني للحسن بن علي رضي الله عنهما في الصلح، حَقْنُ الدماء.

قال الحسن رضي الله عنه : خشيتُ أن يجيءَ يومَ القيامة سبعون ألفًا أو أكثرُ أو أقل، كُلُّهُم تَنْضَحُ وجوههم دمًا، كلهم يستعدي اللهَ فيمَا أُرِيقَ من دمه.

وقال أيضًا: إني ما أَحْسِبُ أن لي من أمة محمد مثقالَ حبةٍ من خردلٍ يُهْرَاقُ فيه مِحْجَمَةٌ من دم، قد علمت ما ينفعني مما يَضُرُّني.

ونلحظ من كلام الحسن بن علي شِدَّة خوفه من الله، ذلك الخوف الذي دفعه إلى الصلح .

وقد مدح الله أنبياءَهُ وأولياءَهُ بمخافتهم الله تعالى:( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).

وقال سبحانه: ( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ).

3-       حِرْصُه رضي الله عنه على وَحْدَةِ الصف:

قام الحسن بن علي بن أبي طالب خطيبًا في إحدى مراحل الصلح، فقال: أيها الناس، إني قد أصبحت غيرَ محتملٍ على مسلم ضغينةً، وإني ناظِرٌ لكم كنظري لنفسي، وأرى رأيًا، فلا تَرُدُّوا عليَّ رأيي، إن الذي تكرهون من الجماعة أفضلُ مما تحبون من الفُرْقَة.

فقد ارتأى رضي الله عنه أن يتنازل عن الخلافة، حَقْنًا لدماء المسلمين، وتَجَنُّبًا للمفاسد العظيمة التي ستلحق الأمةَ كُلَّها إذا بقي مُصِرًّا على موقفه، من استمرار الفتنة، وسفك الدماء، وقَطْع الأرحام، واضطراب السبل، وتعطيل الثغور وغيرها... وقد تَحَقَّق بحمد الله وَحْدَةُ الأمة بتنازله عن عرض زائل من أعراض الدنيا، حتى سُمِّيَ ذلك العام عامَ الجماعة، وهذا يدل على فقه الحسن في معرفته لاعتبار المآلات، ومراعاته نتائجَ التفَرُّقَات، ولهذا الفقه مظاهِرُ في كتاب الله وشواهِدُ، فقد رَتَّبَ المولى عز وجل الحكم على مُقْتَضَى النتائج والشواهد.

4-       من نتائج الصلح بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما:

سَجَّلَ في ذاكرة الأمة عام الجماعة، وأصبح هذا الحدث من مفاخرها التي تزهو بها على مر العصور، وتوالي الدهور؛ فقد التقت الأمة على زعامة معاوية، ورضيت به أميرًا عليها، وابتهج المسلمون بهذه الوَحْدَةِ الجامعة، بعد الفُرْقَة الْمُشَتِّتَة، وكان الفضل لله، ثم للسَّيِّد الكبير الذي قاد المشروعَ الإصلاحي؛ الحسنِ بن علي رضي الله عنهما، وتحقَّقَ -بفضل الله، ثم بجهوده- مَقْصِدٌ عظيمٌ من مقاصد الشريعة؛ من وَحْدَةِ المسلمين، وعادت الفتوحات الإسلامية إلى ما كانت عليه.

إن الحسن بن علي قدوةٌ للمسلمين في التَّرَفُّعِ عن حطام الدنيا، وطَلَبِ ما عند الله تعالى، واحتسابِ الأجر والمثوبة، فالزُّهْدُ في المناصب والكراسي من الأمور الثقيلة على النفس البشرية، فالإخوان، والأصحاب، والأقارب، يتقاتلون على الكراسي والمناصب، والزهد في الرئاسة أَقَلُّ ما يكون في دنيا الناس. وكم من أُنَاسٍ زهدوا في المال والنساء وغيرها من الأمور، لكنهم أمام الزعامة والرئاسة والمناصب ينهزمون!

 وقد قيل: إنه آخر ما يُنْزَعُ من صدور الفاتحين. وتأمَّلُوا قول سفيان الثوري: " ما رأيتُ الزُّهْدَ في شيءٍ أَقَلَّ منه من الرياسة، ترى الرجل يَزْهَدُ في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإنْ نُوزِعَ حامى عليها وعادى "!

 فإياكم وحُبَّ الرياسة؛ فإن حب الرياسة أَحَبُّ إلى النفس من الذهب والفضة، وهو بابٌ غامِضٌ لا يُبْصِرُه إلا البصيرُ من العلماء، فتفَقَّدُوا في أنفسكم أيها الإخوة الصوماليون، واعملوا بنيةٍ خالصة لله، فالحسن بن علي رَمْزٌ لنكران الذات، ومَعْلَمٌ للإيثار، ومدرسَةٌ وفَخْرٌ للأمة عبر الأجيال في تقديمه مصلحةَ الأمة، ووحدَتَها، وحِفْظَ دمائها على أي مصلحة أخرى.

لقد نجح الحسن بن علي في قيادة الأمة بِأَسْرِها لتحقيق مشروعه العظيم، ولم يتأثر بضغوط القواعد الشعبية ولا بغيرها، وهكذا القادة الرَّبَّانِيُّون يفعلون، وكان يَرُدُّ على منتقديه بأدبٍ جمّ، وحجة ظاهرة، فعندما قال له أبو عامر سفيان بن الليل : السلام عليك يا مُذِلَّ المؤمنين! فقال له الحسن : لا تقل هذا يا أبا عامر، لست بِمُذِلِّ المؤمنين، ولكني كَرِهْتُ أن أقتلهم على الملك. وعندما قيل له: يا عار المؤمنين! قال : العار خَيْرٌ من النار!

فقول الحسن بن علي " العارُ خيرٌ من النار" يفتح لنا آفاقًا واسعةً في فِقْهِ القدوم على الله تعالى، فقد كان رضي الله عنه عاملًا في حياته، مستوعبًا لإيجاده، ويظهر ذلك في سكناته وحركاته واختياراته.

 

8- جهود الإصلاح والمصالحة:

إنّ بصيصًا من الأمل يُطِلُّ من هذا البلد الذي أكلته الحرب على مدى أكثر من عشرين عامًا، وحِفْظُ سُمْعَةِ أهل الإسلام تقتضي منا الإصرارَ على اغتنام الفرصة الإقليمية والدولية، التي تجعل من عودة الاستقرار لهذا البلد العربي المسلم مَطْلَبًا مُتَّفَقًا عليه.

والذي أعلمه أنّ ثمة جهودًا تُرَتَّبُ، ومحاولاتٍ تُبْذَلُ لِجَمْعِ الفُرَقَاء، وتحقيق المصالحة بينهم، وعسى أن تؤتي أكلها بصدق النية في الإصلاح من جميع الأطراف، كما قال ربنا: (إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا).

إن العاقل يُدْرِكُ بالحكمة والصبر ما لا يُدْرِكُه بالحرب والقتال، وليس من الشريعة أن يَمْضِيَ الناس في القتال فيما بينهم، ولا أنْ يتأَوَّلُوا لأنفسهم ما صَدَعَتْ نصوصُ الشريعة بتحريمه، والله لا يُصْلِحُ عمل المفسدين ، وعلى الباغي تدور الدوائر، (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ).

 فلْيَعْلَمِ اللَّهُ في قلوبكم أيها الفضلاءُ صِدْقَ النية، والعَزْمَ على التراضي والتَّسَامُحِ، والتنازُلَ الْمُجَرَّدَ من حظوظ النفوس.

وأسأل الله جل جلاله أن يحفظ هذا البلدَ وأَهْلَهُ، وأن يكتُبَ على أيديكم الخيرَ الكثير، ويُجَنِّبَكُم المزالِقَ التي عَثَر بها مِنْ قبلكم إخوانٌ لكم في أفغانستان وفي غيرها، فذهب الجَهْدُ أدراجَ الرياح، وظلت الدماء تنزف لسنين طويلة، والناس لا يأمنون أن يذهبوا إلى مساجدهم أو مدارسهم أو أسواقهم.

اللهم رَبَّ جبريل وإسرافيل وميكائيلَ ، عالِمَ الغَيْبِ والشهادةِ، أنتَ تَحْكُمُ بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهْدِنَا واهْدِ أهلَ الصومال جميعًا لما اخْتُلِفَ فيه من الحق بإذنك، إنك تَهْدِي مَنْ تشاءُ إلى صراط مستقيم.

 والحمد لله رب العالمين، وصَلَّى الله وسلم على عَبْدِه ورسوله، نَبِيِّنَا محمدٍ، وآله وصَحْبِه أجمعين.

أخوكم ومحبكم

سلمان بن فهد العودة

الرياض

19/2/ 1430